• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

معسكر النخيلة..... الامتحان الصعب

وتتفاقم الاُمور... فمعاوية بن أبي سفيان ـ الآن ـ يتزايد طيشاً وغروراً وتتضخم لديه «عقدة» صفين، تلك العقدة التي طاشت بها أحلام آل أبي سفيان و«ألمح» بريقاً من النصر المزيّف يزيّنه طغام أهل الشام، وخدائع عمرو بن العاص، ومروق الذين خرجوا عن الحقّ بخروجهم عن طاعة الإمام فخلطوا بين الحقّ والباطل، ونكثوا البيعة وتآزروا على مقاتلة عليّ(عليه السلام) في وقعة النهروان المشهودة، فرجعوا بهزيمتهم بعدما لم يسلم منهم إلاّ بضع أنفار نقلوا لمن يخلفونهم مشاهد الخيبة... ولم يكن اُولئك الخوارج تعداد جيشٍ فُنيَ عن آخره بقدر ما هي شبهة اُحيلت  إلى فلسفة، استهوتها جماعة، وجماعة شدّتها عصبية الباطل يوم تَحوّلَ إلى دينٍ ينازع كل حقّ باسم الدين، وينتصر للحقّ بشبهة الباطل فتلتبس الأهواء وتختلط الحقائق.
هكذا كانت الكوفة تعجُّ بمثل هؤلاء، وتضجُّ بمثل اُولئك.. خوارجٌ يؤثرون مقاتلة معاوية بكل حجة، ومشككة لا يُرسا لها قرار، وذوو مطامع تجلبهم صيحة الغنائم وتفرّقهم ساعة الجدّ والقتال، وقبائل تجمعهم جلبة الثأر والانتصار للعصبية، وأخلاط ينزعون إلى كل مصلحة ليس لهم دين، إلاّ النزر القليل من البقية الباقية من شيعته ورثهم عن أبيه، وقد أكلتهم حروب ثلاث أفنتهم، فلم تبق إلاّ لممٍ تقادُ بهم الأحداث إلى حيث طاعة الإمام والانصياع إلى أوامره.
قال المفيد في وصف جيش الإمام الحسن(عليه السلام): صُفّ معه أخلاط من الناس بعضهم شيعة له ولأبيه(عليهما السلام)، وبعضهم محكّمة يؤثرون قتال معاوية بكل حيلة، وبعضهم أصحاب فتن وطمع في الغنائم، وبعضهم شُكّاك، وبعضهم أصحاب عصبية اتبعوا قبائلهم لايرجعون إلى دين(1).
هذه هي تشكيلة الجيش الكوفي، عصاباتٌ تستهويها مذاقات أهلها، لا يهتدون إلى سبيل متشتتون خلف إمام، متفرّقون تحت راية، يتنازعون المصير، ويقترحون الطريقة، فلا بإمام يهتدون ولا تحت راية يجتمعون.
والإمام الحسن ـ القائد الممتحن ـ حديث عهد بتشكيل دولة، أفسدتها رُشى الأهواء، وهدّت أركانها صيحات الحروب، وزلزلتها الفتن والمطامع، ثم هو يستثيرهم رعاياه لينفّر عزائم قومٍ تعهدوا له بالنصرة بعدما نفر إلى نُخيلة الكوفة، وقد تعهّدوا له ببيعة الموت، وبيعة السلم... ولم يجبهم إلاّ إلى بيعة الحقّ... كتاب الله وسنّة رسوله.. هكذا كانت بيعة الإمام الحسن(عليه السلام) اختصرت معها كل مسافات الزمان، وطوت في بلاغاتها كل مكامن الأحداث، ليربط بماضيها، ويشدّ حاضرها بمستقبل الأحداث.

النُخيلة:
«والنخيلة» تُعيد ذاكرة الأحداث إلى حيث استنفرت كل شيء من أجل أن تشهد خروج عليّ(عليه السلام) بجيشه يوم أغار معاوية على الأنبار، فقتل عامل عليّ(عليه السلام) ونهب الأموال وعاث فيها القتل والدمار، واليوم تعيد مجدها حينما تستقبل جيش الحسن بن عليّ(عليهما السلام) بعد استنفار أصحابه للقتال، فإذن هي محطة انتظار المقاتلة المستجيبة لنداء اللقاء، كما هي محطة انتظار لصنع لحظات تاريخ مهزوم آخر يستنزف معه فرص السلام التي تصنعها وقفات صمود قتال تستجيب لنداءات الإمام التي تلملم جراحات الهزيمة... الخديعة... النكوص... الاستسلام لكل ما من شأنه أن يجلب العافية على حساب القيم.
«النخيلة» اليوم تضطرب بحشود مقاتلة جيش الإمام(عليه السلام)، كما هي تضطربُ وجلة من إعادة لحظة الانهزام، أو قُل مواقف الخذلان الذي يجرجر معه خيبة تاريخ مهزوم يعاد في شرائح مجتمع متناقض من المصالح والأهداف.
«النخيلة» إذن موعدهم مع الإمام، وموعدهم مع الوفاء أو الخذلان، بعد أن تناهت أخبار الجيش الشامي الذي عاجل الحسن(عليه السلام) بالمشاغلة أو المرابطة متحفزاً للقتال والمواجهة.
و«النخيلة» القاعدة العسكرية المعروفة، تُحال اليوم إلى قاعدة لمسرح أحداث مشحونة بكل نزعات الخير لدى بني الإنسان حيناً، أو تُحال إلى مرتع لكل شرّ حين تتحكم «الأنا»، المطامع، المصالح، على حساب القيم انتصاراً للأهواء.
هذه هي «النخيلة» تشهد اليوم تتابع الكتائب الكوفية بكل توجهاتها، لتشهد الصراع... لتضمّد جراحات الأمس الدامي بكل فصوله على ضفاف «صفين» وجولات المواجهة التي كان يفتعلها معاوية ليضمن سلطان الخضراء ومشاتي الغوطة حتّى مصائف جيرون وروابي القدس النظرة..
إذن فلتنزف الدماء في «النخيلة» ليحيلها معاوية أنهاراً تسقى بها مزارع كروم الشام، ثُمّ يحتسي من خمرته المعتّقة في حانات «السقيفة» ليُشعر بنشوة الانتصار الموهوم....
لا يريد أن يفيق ابن أبي سفيان من سكرته تلك التي احتسى مع أبيه كأساً مضمخة بالمكائد على موائد «السقيفة»، فلقد تعلّم من أبيه كيف يحفّز الأحداث ليجني ثمارها بعد حين.. كان أبو سفيان يستثير الخصم فيستبق الأحداث ليضمن بمساوماته تحقيق ما يريد، فلقد هدّد إبّان خلافة أبي بكر ليملأنّها خيلاً ورجالاً على أضعف الحيين تيم وعدي، فاُسكتت فورته بمنصب الشام ولاية لإبنه يزيد...
هذه هي «حكمة»  أبي سفيان في استفزاز الخصم، يستثيره ليجني كل ما يريد، بأقصر الطرق وأبخس الأثمان....
وهذا دأب معاوية كان مع سلفه هكذا مساومات ومزايدات من أجل البقاء .... من أجل دنيا يشيّدها معاوية على جماجم الآلاف دون أن يندى له جبين أو يستفزّه عرق.... النصر الموهوم حصيلة خلافة السقيفة يجنيها معاوية طيلة عقود ولايته المخدوعة بدهاء مزيّف ليُحال إلى حكمةٍ وحسن تدبير يُمضيها «خلفاء السقيفة».
لم يَفلح معاوية في سياسته هذه، فبعد اليوم يُعدُّ معاوية لصّاً وقطّاع طريق، أو خارجاً على القانون، حيث لا تنفع سياسة الابتزاز مع الحسن بن عليّ(عليهما السلام) ليستثيره معاوية بتهديداته الواهية، ليحصل على أقل ما يمكنه الحصول عليه من سياسة الابتزاز: الإبقاء على خلافته المدّعاة، أو استقلاليته كما كان في عهد عمر وعثمان، أو على الأقل ولايته التابعة للخلافة الإسلامية كما سعى إليها بكل جهده في عهد عليّ بن أبي طالب الخليفة والإمام، فلم يقرّه عليّ(عليه السلام) على شيء ممّا كان يطمح إليه ابن أبي سفيان لئلاّ تكون لعليّ(عليه السلام) السابقة في إقرار دولة بني اُمية كما ارتكبها سلفه.
والحسن(عليه السلام) إبن أبيه علي(عليه السلام) لم يقرّ لمعاوية ما بيده من شيء وقد عرفه معاوية كذلك. إذن فليجرّب ابن أبي سفيان حظّه المتعثّر مع الحسن بن عليّ(عليهما السلام) في تهديداته ومساوماته... قتال أو إقرار له بالخلافة، فإن لم يكن فبالولاية على أقل تقدير...
ويبعث معاوية بكتاب تهديد يستبطن كل خسيسة، ويطوي على كل غيلة ومكيدة:

بسم الله الرحمن الرحيم
أما بعد، فإنّ الله عزّ وجلّ يفعل في عباده ما يشاء {لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ  وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} فاحذر أن تكون منيّتك على يد رعاع من الناس، وايئس أن تجد فينا غميزة(2)، وإن أنت عرضت عمّا أنت فيه وبايعتني وفيت لك بما وعدت، وأجزت لك ما شرطت، وأكون في ذلك كما قال أعشى بني قيس بن ثعلبة:

وإن أحـد أسـدى إلـيـك أمـــانـة
فأوف بـها تدعى إذا مـتّ وافـيـا
ولا تحسد المولى إذا كان ذا غنى
ولا تجفه إن كان في المال فانيا

ثُمّ الخلافة لك من بعدي، فأنت أولى الناس بها، والسلام (3).

فأجابه الحسن بن عليّ(عليه السلام):

بسم الله الرحمن الرحيم
أمّا بعد، وصل إليّ كتابك تذكر فيه ما ذكرت، فتركت جوابك خشية البغي عليك، و بالله أعوذ من ذلك، فاتبع الحقّ تعلم أني من أهله، وعليّ إثم أن أقول فأكذب، والسلام(4) .
هذا كتاب الحسن بن عليّ(عليهما السلام) ينطق بالحقّ، ويردّ الكيد إلى نحور أهله، يختصر معه مسافات الزمن، ويلملم شعث الأحداث المترامية في أطراف متاهات الأهواء والمصالح، ويوقف البغي وأهله عند حدود وضوح الشبهة، أو اختلاط الرؤى عند امتزاج الحقّ بالباطل لضعفة الناس الذين خلطت عليهم الفتن مواقف النصرة للباطل، أو الخذلان للحقّ، أمّا ابن أبي سفيان فيعرف الحقّ وأهله، إلاّ أنّه آبق عنه، فمتى أثاب إلى الحقّ علم مصدره ومورده وعرف أهله.
أما والله، فإنّ معاوية لا تختلط عليه المنافذ، ولا تلتبس لديه الموارد، فإنّه يعرف الحقّ وأهله، ألم يوصِّ ولده يزيد حينما أفحم الحسن معاوية بالجواب، فتعجب يزيد بعد أن سكت معاوية عن ردّه بقوله: يا بني، إنّ الحقّ حقهم(5).
هذا هو سرّ الاختصار في جوابه(عليه السلام)، فإنه لم يفصّل بأكثر من أن يشير، ولم يصرّح بأحسن من التنويه، فإنّ معاوية متى ما اتبع الحقّ ـ وهو ليس بفاعل ـ علمَ أنّ الحسن(عليه السلام) هو مصدره ومورده، ومبدأه ومنتهاه.. . ولكن أنّى للطليق أن يفيق من سكرة الخديعة ونشوة الخسة ، فإنّها حسكة نـفـاق فيـه وجبلّـة خديعة لديـه منـذ أن أرغم الله أنفه بالإسلام وهو صاغر.
______________
(1) الإرشاد للشيخ المفيد: 2 / 10.
(2) الغميزة: المطعن.
(3) مقاتل الطالبيين: 68، شرح النهج لابن أبي الحديد: 16 / 228.
(4) مقاتل الطالبيين: 68.
(5) شرح ابن أبي الحديد: 16 / 212.


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
المدائح
المحاضرات
الفقه
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

١ ذوالقعدة الحرام

١- ذوالقعدة الحرام ١ـ ولادة كريمة أهل البيت فاطمة بنت موسى بن جعفر(س). ٢ـ غزوة بدر الصغرى. ٣ـ وفاة الاشعث ب...

المزید...

١١ ذوالقعدة الحرام

١١- ذوالقعدة الحرام ولادة ثامن الحجج، الامام السلطان ابوالحسن علي بن موسى الرضا المرتضى(ع) ...

المزید...

١٥ ذوالقعدة الحرام

١٥- ذوالقعدة الحرام نهاية الحكم الاموي وبداية الحكم العباسي ...

المزید...

٢٣ ذوالقعدة الحرام

٢٣- ذوالقعدة الحرام غزوة بني قريظة وتصفية يهود المدينة

المزید...

٢٥ ذوالقعدة الحرام

٢٥- ذوالقعدة الحرام ١) يوم دحو الارض ٢) خروج الرسول (ص) لحجة الوداع ٣) احضار الامام الرضا(ع) من الحجاز إلى ...

المزید...

٣٠ ذوالقعدة الحرام

٣٠- ذوالقعدة الحرام شهادة الامام الجواد(ع)

المزید...
012345
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page